مساحات رأي

في الذكرى الـ(13) لاستشهاده.. “جار الله عمر” فكرة والأفكار لا تموت

الهوية- خاص:download (46)

سيظل جار الله عمر، المولود بقرية كهال، مديرية النادرة ، بمحافظة إب، (1942) خالدا في ذاكرة اليمنيين، حيث رسّخ جار الله عمر أفكاره بعظمة الموقف الشهم، فهو جزء أصيل من سيرة طويلة نحو الحرية في اليمن، وهو أحد الأبطال الوطنيين الذين دفعوا ثمناً فادحاً لمبادئهم.. رجل سياسة عالي المستوى، استوعب المفاهيم المتغيرة والمعقدة على مدى أربعة عقود، بحساسية متفوقة، كما خاض تأملاً واسعاً أفضى به إلى التحول من ثوري عنيد متطرف إلى صاحب تجربة فذة في الحوار والتسامح..

 

الحاصل أن حياة “جار الله عمر”، بين الشمال والجنوب كانت مليئة بما هو معقد من التفاصيل التي نجا من مكائدها باتخاذه الشفافية والمراجعة النقدية منهجاً مسؤولاً وموضوعياً، ما جعله واحداً من أبرع الذين مزجوا اليومي بالتاريخي فصار بمثابة تيار مغاير وآخر في الحياة السياسية اليمنية.

وأما في ضوء عجرفة السلطة عقب حرب صيف94 فقد كان موقفه حازماً ضد إذلال حزبه بجسارة مشهودة جداً. وأما بين صنعاء وعدن فقد كان بطلا للمستضعفين وللحالمين الوطنيين، بينما امتاز بتقييماته غير المتحيزة على الدوام. إنه المناضل الصلب الذي تحل ذكرى اغتياله هذه الأيام .

تمثل سيرة حياته الزاخرة أفقاً للتفاؤل الإنساني، وتعزيزاً للهمة الديمقراطية، وكفاءة الروح القديرة وطنياً، إضافة إلى ترقية التعايش الخلاق داخل المجتمع. كان جار الله عمر طرازاً نوعياً ومختلفاً من السياسيين والقادة الألمعيين بشخصيته الإبداعية المستقلة.

كان من الصعب أن يتم استلابه، فيما لم يكن سياسياً لئيماً مرفهاً، بقدر ما كان المتخاصم النزيه والعفيف مع نزعة المادة. وفضلاً عن السلطة الأخلاقية التي صنعها من خلال ممارساته على أصعدة السياسة والفكر والحياة الاجتماعية عموماً، اتخذ من النقاشات الصبورة والعقلانية بشكل خاص مساراً رفيعاً من أجل الحقيقة وتقريب وجهات النظر، إما في عز الشمولية جنوباً وشمالاً أو مع تمادي القهر الوحدوي خلال المرحلة الانتقالية بعد العام 90- حتى إنه بلغ بذلك درجة رفيعة وحيوية من النضج الذي جعله حاد البصيرة كنسر.

والمعلوم أنه ظل الحميم مع الجميع حتى الذين تساقطوا، أو الذين لا يتفقون معه فكرياً داخل الحزب أو خارجه، كما ظل يمزج السياسة والثقافة متطلعاً كما ينبغي للمستقبل. لكن تياراً قذراً ومتوحشاً في سلطة الهيمنة والنفوذ التاريخية اغتاله تحت مظلة التكفير، معززاً بمساندة كبرى من الجهة الأصولية المتخلفة والمتشددة التي كانت ضد كل القيم العظيمة التي تمثلها جار الله عمر في حياته الملهمة والعنفوانية. بينما كانت المساواة والعدالة والكرامة وقبول الآخر والتطور مسالك جار الله عمر الأساس، ولأنه حامل إرث المحاربين القدامى الذين تميزوا بالإيثار وهموم الوعي العضوي بقضية التغيير، استطاع أن يكون من الرادمين الأفذاذ لتلك الهوة بين الأجيال، بحيث إنه لقب بحبيب الشباب ونصير الحداثة والحليف الدائم للتنوير وللتقدم.

في 28 ديسمبر 2002م، اغتيل جار الله عمر، بعد أن تلقي رصاصتين في صدره أمام أكثر من 4000 شخص هم أعضاء وضيوف المؤتمر العام الثالث لحزب الإصلاح، وأمام شاشات التلفزة ووسائل الإعلام المختلفة بعد دقائق من إلقائه لكلمة قوية نيابة عن الحزب الاشتراكي، في مؤتمر حزب الإصلاح وقد قبض على القاتل على الفور وكشف عن مخطط لقتل مجموعة من السياسيين، وحكم عليه لاحقا بالإعدام جراء جريمته.

دفن الشهيد جار الله عمر، في مقبرة الشهداء بصنعاء وشيعه مئات الآلاف من اليمنيين في مشهد جنائزي نادر وعفوي كما رثاه الآلاف من كتاب ومفكري ونخب العالم العربي والدولي.

إن مرور 13 عاما على اغتياله لم يضع اليمن وقواها السياسية على قطيعة مع الاغتيالات السياسية بل مازال مسلسل استهداف العقول السياسية  والرموز الوطنية  مفتوحا على مصراعيه، ولعل آخرها اغتيال السياسي البارز الشهيد محمد عبد الملك المتوكل الأمين العام المساعد لاتحاد القوى الشعبية وقبله الشخصية الوطنية والبرلماني الشهيد عبد الكريم جدبان، والبرفسور احمد شرف الدين، ولتمتد جنوبا باغتيال الدكتور الشهيد زين محسن اليزيدي عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي أحد أبرز نشطاء الحراك السلمي الجنوبي.

عاش جار الله عمر، بشكل استثنائي، ورحل بشكل استثنائي، كان رحيله صادما، ومثّل خسارة كبرى على صعيد الحياة السياسية اليمنية برمتها، وبرحيله عنها ترك ثغرة ما تزال واسعة، لم يستطع السياق السياسي العام سدها ولا تجاوزها بعدُ.

الشهيد الخالد “جار الله عمر” واحد من تلك المشاعل البهية التي طالتها رصاصات التخلف والإجرام بهدف اغتيال “الفكرة” غير أن السنوات التي أعقبت تلك الجريمة البشعة أثبتت ذهاب القتلة وبقاء “الفكرة” ، واستمر “جار الله” حيا لم يمت .

لم يكن هذا البسيط الذي اهتزت الأقاصي لحادثة اغتياله ذا نفوذ أو صاحب ثراء أو ينتمي لقبيلة ، كان البسطاء الذين أحبهم وأحبوه هم قبيلته الوحيدة ، الحزب الذي نذر له جل سنوات عمره والوطن الذي كان أغلى ثروة لديه وبذلك استمر نبضا في كل قلب شريف ونبراسا ما زال بهاء إشعاعه ينير نهج السير لمعانقة الفجر الذي ظل دوما يتصدر أحلامه السامية ولذلك خرج وطن بكامله لمواراة جثمانه في مسامات التربة التي عشقها باقتدار .

“جار الله عمر” قاتلوك ومن جلس معهم على طاولة الموت، المتآمرون والمخططون ذهبوا إلى مزبلة التاريخ وبقيت أنت مشعا فريدا، غادروا مصحوبين باللعنات واستمر ” جار الله”  حالة استثنائية تطرز الأمل وتولد الحلم، رحلوا تطاردهم مساوئهم ولطخة العار السوداء وبقيت أنت منارة هدي وملهم نضال وأيقونة سلام ومجد ،، ماتوا مائة مرة خوفا وهلعا وعشت أنت  وستعيش مكللا بغار الخلود مئات من السنوات الضوئية ،، ظنوا أنهم باغتيالك حققوا الانتصار لكنهم بعد حين اكتشفوا انك أنت من انتصر، ضحكوا لكنك أنت من ضحك أخيرا .

“جار الله عمر” لم يذهب بعيدا، انه فكرة نبيلة والأفكار لا تفنى ولا تموت وسيعيش زمنا طويلا ملهما لنضالات أجيال عديدة ستأتي، سيعيش أكثر من قاتليه الذين لن يتذكرهم احد مطمورين في غبار النسيان أشبه بقطعة صدئة في باحة خردة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى