مساحات رأي

فتاوى التحريم

حسين الوادعي

لم يعبث شيء بالإنسان العربي مثلما عبثت به الفتاوى. أليست الفتوى بحد ذاتها نوعا من التناقض؟.

إذ كيف يمكن لإنسان أن يصدر شخص فتوى يحدد فيها “رأي الله” في قضية ما؟. هل الإفتاء نوع من “التأله”، وإدعاء العصمة، ولهذا كان كبار الفقهاء يتهربون من الفتوى كالهروب من النار؟!.

هي دوامة كاسحة لن نخرج من هذه الدوامة إلا إذا تحولت الفتوى إلى مجرد “رأي”.

أثار تصدير اليمنيين للقهوة إلى أرجاء العالم الإسلامي من المعارك ما لم يكن في الحسبان، خاض العالم الإسلامي معركة ضد القهوة استمرت 400 سنة.

لم يعرف العرب القهوة قبل القرن السادس عشر الميلادي، ويعود اكتشافها العربي إلى مشايخ الصوفية اليمنيين، ويرجح البعض أن الصوفي العدني “أبو بكر بن عبد الله العيدروس”، كان من أوائل مستخدميها.

انقسم علماء اليمن بين محلل ومحرم لشرب القهوة، ورأى من حرموها أنها مسكرة ومنافية للمروءة.

انتقلت القهوة من اليمن إلى مكة عبر التجار والحجاج اليمنيين. وقد تحدثت كتب التاريخ عن “واقعة مكة” عام 1511م عندما ضبط ناظر الحسبة مجموعة تشرب القهوة في جوار الحرم مما أثار جدلا فقهيا أدى إلى تحريمها واعتبارها خمرة مسكرة فصدر الأمر بجلد بائعها وشاربها وطابخها وشاريها!

بل اخترع الفقهاء أحاديث ونسبوها للرسول على شاكلة:”قال رسول الله (ص) من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها “!.

وقد اضطر الناس إلى شرب القهوة في السر. وكانت العامة تهاجم المقاهي وتحطمها باعتبارها خمارات وأماكن للرذيلة. وتفنن الفقهاء في تحريم القهوة وأماكن شربها فقالوا انه لا يجلس في مجالس القهوة إلا أرذال الناس وأنها مضرة بالصحة ومذهبة للعقل وخارمة للمروءة، وقالوا أنها تساعد على السهر مما يؤدي إلى إضاعة صلاة الفجر.

ومن اليمن إلى مصر. بعد أن أخذها المصريون عن الطلبة اليمنيين الذين كانوا يتعاطونها في رواق اليمنيين بالأزهر. وأفتى الفقيه الشافعى “أحمد بن عبد الحق السنباطى” بحرمتها لأنها من المؤثرات على العقل. وأطلق يد أتباعه للبطش بتجار البن وبائعيه وشاربيه وأماكن شربه. وكانت نقطة التحول عندما قتل أتباعه أحد تجار البن مما أثار غضب التجار الذين حاصروه في المسجد، وأقاموا مجلس قهوة خارج، واستقبلوا العزاء في روح التاجر الراحل على قرع أنخاب القهوة لمدة 3 أيام.

بعد 200 سنة من التحريم تم تحليل القهوة في مصر. أما في عمان فظل بعض الفقهاء يحرمها حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

ازدحمت رفوف مكتبات التراث بالكتب والرسائل حول تحريم القهوة. بل أنها فاقت في عددها على الكتب التي ألفت في تحريم الخمر. وكانت حملات مطاردة القهوة أعنف وأشمل من تلك التي لاحقت الخمور والخمارات.

والعالم الإسلامي يودع تدريجيا مرحلة “القهوة الحرام” انشغلت الشام بتحريم الطماطم!. رأى الشاميون الطماطم للمرة الأولى في القرن التاسع عشر وأثارهم لونها الأحمر غير المطابق لكونها “خُضرة” فرفضوا شراءها أو أكلها وأطلقوا عليها اسم “مؤخرة الشيطان” في حين أصدر مفتي المدينة فتوى بتحريم أكلها.

إذا كانت الطماطم تحولت إلى “مؤخرة إبليس”، فإن الدراجة النارية عندما دخلت العالم الإسلامي أطلق عليها اسم “حصان إبليس”، وتطوع المتطوعون لتحريم ركوبها.

ألم يطلق علماء السلفية على القنوات الفضائية في بداية التسعينات لقب “قنوات الشيطان” وحرموا اقتناء “الدش” أو بيعه أو نقله أو استخدامه؟!.

لم تطل معركة الطماطم طويلا. فقد تحول المزاج العام وبدأ الناس في زراعتها وبيعها.

لكن جاءت العقود الأولى من القرن العشرين بمعركة جديدة حول البنطلون. عندما دخل البنطلون لليمن مثلا ،ثارت معركة كبيرة واعتبر الفقهاء ارتداءه خارما للمروءة وأفتوا بعدم جواز الصلاة به. من الجانب الآخر رأى المجتمع القبلي في اليمن أن البنطلون للنساء فقط وأن الرجال الذين يرتدونه “مشروخين” ومشكوك في رجولتهم.

استلمت السلفية المعاصرة معركة البنطلون وحرمته في البداية ثم تراجع البعض عنهم تحت شروط معينة. لكن لا زالت هناك فتوى شهيرة للشيخ الألباني تحرم لبس البنطلونات بحجة أنها: “تحجّم العورة، وبخاصة بالنسبة للمصلين الذين لا يلبسون اللباس الطويل الذي يستر ما يحجمه البنطلون من العورة من الآليتين …. حيث يسجد الإنسان فيجد أمامه رجلاً (مبنطلاً) -إن صح التعبير- فيجد هناك الفلقتين من الفخذين، بل وقد يجد بينهما ما هو أسوأ من ذلك”!

لو استسلم العالم إسلامي للفتاوى لظللنا حتى الآن نركب الحمير ونسكن الأكواخ ونتداوى بالكي والفصد ونتجول في أسواق الجواري والعبيد.

ألم تحرم الفتوى كل شيء من المطبعة إلى السيارة والمدرسة والراديو والتلفزيون والانترنت و”الشات” والرموز البصرية للمحادثات عبر الماسنجر وكرة القدم والموسيقى والعمليات والجراحية….الخ.

ليست المشكلة في ترشيد الفتوى أو في تنظيم الفتوى، المشكلة في فكرة الفتوى نفسها، فالفتوى تعني الكلام نيابة عن الله والتعبير عن “رأي الله” في الموضوع المطروح. وهذا أسوأ أنواع التأله والكهنوت.

كما أن الفتوى تدعي أن لرجل الدين الرأي الفصل في كل شؤون الدين والدنيا، وأن كل تصرف يحتاج إلى فتوى دينية لقبوله أو رفضه وهذا فيه إلغاء للحق في الاختلاف والتفكير. بل إلغاء للعقل البشري نفسه.

هل تتحول الفتوى إلى مجرد رأي؟

هذه نقطة البداية لعودة العقل والإنسان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى