مساحات رأي

عندما يصبح الطب مهنة داعشية !

هاني أحمد علي

بات العام يقترب من نهايته والولوج في عام آخر منذ اندلاع العمليات العسكرية في اليمن منذ 26 مارس من العام الجاري، خيمت بظلالها على كل مجريات الحياة المعيشية للمواطن اليمني في عموم محافظات الجمهورية، خصوصاً بعد أن وجد الملايين من الشباب والعاملين أنفسهم عاطلين على العمل وغير قادرين على مواجهة صعاب الحياة والعيش الكريم الذي كانوا جميعاً يطمحون إليه.

الصبر والصمود الذي يظهره هذا الشعب العظيم منذ بداية الحرب والحصار على اليمن في ظل غياب الكثير من الخدمات وانعدام كل مقومات الحياة من وقود وغذاء وشلل تام في مجال الصحة وإغلاق المستشفيات والأقسام الخاصة بمرضى السرطان والفشل الكلوي، بالإضافة إلى عجز وزارة الصحة العامة والسكان عن توفير الأدوية الممنوحة لكثير من الحالات عبر الصيدليات المركزية بصورة أسبوعية أو شهرية، كأمراض السكر والقلب والأمراض الوراثية وغيرها، كل هذه المعاناة والأوجاع التي أصيب بها الوطن إلا أن ذلك يجعل منه شعباً صامداً وصابراً على الإطلاق.

نتفق جميعاً بان مجال الصحة هو المتضرر الأكبر من هذا الحرب والدمار الذي حل باليمن منذ عام، وما نداءات واستغاثات المسئولين في وزارة الصحة المتكرر لكل المنظمات الدولية والإنسانية في العالم بعد نفاذ الأدوية الهامة من مخازن الوزارة إلا خير دليل على أن هناك كارثة حقيقية وشيكة ستتسبب بانهيار كامل في قطاع الطب والصحة وسيتضرر منها كل مواطن يعيش في هذا البلد، وما يثير المخاوف أيضاً هي تلك الإحصائية الخطيرة الموجودة لدى أولئك المسئولين بوزارة الصحة عن عدد المستشفيات والمستوصفات الحكومية والخاصة التي تعرضت للإغلاق جراء الحرب بالإضافة إلى قصف عدد من مستشفيات لمنظمة أطباء بلا حدود الدولية التابعة للأمم المتحدة في بعض المحافظات اليمنية.

مع كل هذا الألم الذي يعتصرني تجاه الوجع والأنين الذي أصاب وطني، إلا أن الألم الأكبر من ذلك هو عندما يتحدث إليك طبيب بأنه يفكر بإغلاق مشفاه وعيادته التي تكتظ بعشرات بل مئات المرضى يومياً وعلى مدار الساعة، ليس لسبب سوى أنه لم يعد قادراً على استيعاب تلك الحالات المرضية بسبب المضايقات والابتزاز والتعسفات التي أصبحت تطاله بشكل يومي وعلى مرأى ومسمع الجميع بما فيهم سلطة الأمر الواقع أنصار الله الذين يتعمدون صم آذانهم فور تلقيهم الشكاوى عن تلك العصابات وأرباب السجون التي جعلت من الظروف الأمنية الحالية فرصة ذهبية لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية وإقلاق السكينة العامة وابتزاز الآخرين والتعرض لممتلكاتهم الخاصة.

لم يكن سهلاً على الإطلاق الكلام الذي سمعته من الطبيب أحمد علي العاقل – أشهر أطباء اليمن ونقيب سابق للأطباء اليمنيين لأعوام، حيث أفنى هذا الرجل ما يقارب 30 عام من حياته في سبيل خدمة الناس ولم يتوانى لحظة في تقديم يد العون والمساعدة للآخرين انطلاقاً من واجبه الديني والأخلاقي والمهني، الطبيب العاقل الذي أغلق احد عياداته الكائنة في شارع مأرب جوار وزارة التربية والتعليم بسبب المضايقات التي تعرض لها من قبل مسلحين كادوا أن يتسببون قبل أشهر قليله بموته وموت عدد من المرضى القابعون في عيادته بعد إطلاق النار عليه، وكأننا نعيش عصر الغاب ولم يعد هناك رادعاً دينياً ولا قانونياً ولا قبلياً لأولئك المجرمين وقاطعي الطريق وهم يعبثون بأرواح الناس ويعملون على نشر الفوضى والخراب.

بالفعل مؤلم جداً وأنت تستمع لهذا الطبيب الذي اضطر أن يعمل في عيادته الأخرى الواقعة بمنطقة هبرة مديرية شعوب بعد أن أغلقت عيادته السابقة أبوابها أمام الأطفال والنساء المرضى القادمون من مناطق بعيده خارج العاصمة صنعاء، فكم يشعر الشخص بمرارة وحسرة وهو يستمع لشكوى طبيب عملاق، ليس لذنب اقترفه سوى أنه رفض الخروج من البلد والانتقال للعمل في أي دولة أخرى حباً في تقديم خدماته لأبناء وطنه وأبناء جلدته واستثمار كل خبرته وتعليمه في تقديم كل ما يحتاجه المرضى والمحتاجين، خصوصاً في مثل هذه الظروف التي تعيشها اليمن وتقلصت خدمات الطب والصحة في كثير من الأماكن إما بسبب الحصار المفروض أو هجرة الكثير من الأطباء إلى الخارج هرباً من الحرب.

محزن كثيراً وأنت تصغي لشكوى طبيب يعمل من الساعة الـ8 صباحاً وحتى الـ2 بعد الظهر ومن الساعة الـ4 عصراً وحتى الـ9 مساء، وأصبح يعمل دون تذمر وملل وكلل وعلى حساب صحته وحساب أسرته وعلاقاته الاجتماعية التي ضرب بها جميعاً عرض الحائط من أجل مهنته النبيلة التي يزاولها بكل حب وإخلاص، كل ذلك لم يشفع لهذا الطبيب أن يعمل بهدوء وسلام  فقد أصبحت العصابات المسلحة التي تنطوي تحت مظلة المسيرة القرآنية تزوره بشكل مستمر بل أكثر من المرضى أنفسهم ممن لديهم مراجعة العيادة، لم يسلم هذا الطبيب من أذى تلك الجماعات المسلحة والعصابات المأجورة بل تعدى ذلك إلى إشهار السلاح عدة مرات أمام المرضى داخل العيادة وتلقيه حتى التهديد بالقتل ، ووصل الأمر إلى أن تقوم تلك العصابات بإحراق سيارته ومهاجمة العيادة وهي تكتظ بعشرات المواطنين داخلها.

بالرغم من قيام بعض وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية بنشر الحادثة التي تعرض لها في الفترة الماضية، وبالرغم من تقديمه شكاوى عدة لقيادات كبيرة ومسئولين في جماعة أنصار الله ، لمعرفة منهم الأشخاص المتورطون في هذه الحوادث وما هي الدوافع والأسباب التي دفعتهم لمهاجمة عيادته مرات عدة وإحراق سيارته، إلا أن تلك القيادات أثبتت عجزها وعدم قدرتها وقف هذه الأعمال الإجرامية والهمجية التي ربما ستؤثر سلباً على علاقة الناس بهذه الجماعة وفقدان الثقة بكل من ينتمي لهذه المسيرة التي صارت العصابات تهاجم الآمنين وتبتز الناس باسمها وتحت شعارها ولوائها.

لكن المضحك المبكي في حديث الدكتور عندما سأل أحد قياديي أنصار الله عن السبب في تلك المضايقات المستمرة التي يتعرض لها، فرد عليه أبو …… قائلاً : يا دكتور أنت داعشي، لم يخفى هذا الطبيب سخريته من هذا الرد السخيف، فهو لم يكن يوماً عاملاً في المجال السياسي ولم يكن يوماً قائداً لحزب أو جماعة ، بل أنه لا يعرف حتى معنى كلمة “داعشي” وماذا تقصد؟ إلا إذا كانت مزاولة الطب مهنة داعشية في نظر هذه الجماعة فهذا أمر آخر.

ما يخيفنا حقاً هو توجه هذا الطبيب إلى اعتزال مهنة الطب وإغلاق عيادته في وجه المواطنين بسبب تلك الأفعال الشيطانية والصبيانية بعد أن وصل بهم الحال إلى ابتزازه وتهديده تارة تحت ذريعة الضرائب التي يحرص على دفعها سنوياً بعد أن قامت تلك العصابات بإيعاز للجهات المعنية لرفع الضرائب على عيادة الدكتور هذا العام 800% مقارنة بالعام السابق، وتارة بفتح قضايا شخصية مضى عليها سنوات طويلة والتدخل فيها وتهديده من خلالها بدفع مبالغ مالية تصل إلى الملايين، ناهيك عن التهديد المستمر الذي يطال حياته وحياة أسرته والعاملين لديه.

إن كانت سلطة الأمر الواقع جماعة أنصار الله تعلم بذلك فتلك مصيبة ، وإن كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم، فالطبيب الذي أفنى أكثر من نصف حياته في مزاولة مهنته الإنسانية والمهنية تولدت لديه قناعة بأن العمل في ظل هكذا ظروف وهكذا وضع، وفي ظل وجود تلك الجماعات والعصابات العبثية لم يعد ممكناً، بالرغم من أنه يفضل قضى بقية حياته في خدمة وطنه ومجتمعه، ولم يعد أمامه إلا إغلاق عيادته الأخرى بعد السابقة والاعتذار لمرضاه، ولكنه يفضل قبل ذلك كشف الحقائق لعامة الناس عن طريق مؤتمر صحفي أو نشر إعلامي أو وقفة احتجاجية ، ليعلم الجميع تلك المضايقات والتصرفات الغير أخلاقية واللإنسانية لجماعات تركت العمل في جبهات الحدود للدفاع عن الوطن وتفرغت لتصفية الحسابات والابتزاز لطبيب يعمل تحت القصف منذ عام وفي ظروف خطيرة وغير آمنه ، فقد كان الأحرى أن يتم مكافأته لا ملاحقته دون وجه حق من قبل جماعات جعلت من المسيرة القرآنية وسيلة للكسب غير المشروع، وجعلت من الموت لأمريكا وإسرائيل وسيلة لإخافة الآمنين وقطع أرزاق الناس، وجعلوا من فوهات البنادق طريق سريع للحصول على ما يريدون وبطرق غير قانونية.

مؤسف للغاية أن تلجأ إلى طبيب وقد اعتصر الألم قلبك بسبب المرض الذي حل بأحد أطفالك أو أسرتك، وفور وصولك إلى عيادته كي ينقذ فلذة كبدك تجد الأبواب مغلقة أمامك ولم يعد لسماعة تلك الطبيب وجود، وقد رفعت على الأبواب الموصدة يافطة مكتوب عليها ” نعتذر عن خدمتكم بفضل المسيرة القرآنية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى