خاص الهويهمساحات رأي

الشيعة والسنة في اليمن ضجة مفتعلة؟

 بقلم   محمد يحيى عزان

في فترة سابقة كادت مشاعر المسلمين أن تتوحد نتيجة التخوف من السيطرة الإسرائيلية في المنطقة، فالتحموا ببعضهم وتناسوا خلافاتهم، وشكلوا جبهة واحدة أرعبت اسرائيل ومن وراءها، وذلك ما فطن له الصهاينة، فعملوا عن طريق مريديهم إلى نبش الخلافات السياسية والمذهبية بين المسلمين، ولأن فينا «سمَّاعون لهم» نجحوا إلى حد كبير حين حركوا مكنة الضجيج الإعلامي ليفرز المجتمع إلى: سنة، وشيعة، وعملوا على تحويل المخاوف من الأعداء، إلى خوف من الإخوة والاشقاء، وبالتالي أغلقت جبهة ضد الأعداء، وفتحت جبهات بين الأشقاء، حتى صار بعضنا يصرح – دون خجل – بأن دولة «الوهابيين» أو «دولة الروافض» أشد خطراً عليه من إسرائيل.. وهذا يعني أن مخطط أعداء الجميع نجح وتحققت نتيجته!!

وهنا لا بد أن نذكر بأن «السنة» و«الشيعة» مصطلحان يشير كل منهما إلى جماعة من المسلمين لها رؤية خاصة في بعض مسائل الفكر الديني، والتاريخ السياسي للدولة الإسلامية، وفي ضوء ذلك بنى كلٌ ولاءاته ورسم خياراته، ولم يكن ثمة مشكلة تذكر . غير أن التجاذبات السياسية وسعت الشقة حتى جعلت من العنوانين «الشيعة والسنة» رمزين متضادين. مع أن الأصل أن أياً من المصطلحين ليس مذموماَ في ذاته، ولا يعني الانتماء إلى أحدهما البراءة من الآخر والوقوف ضده، وإن عمل المتعصبون من الطرفين على فرض المفاصلة وتعميق المقاطعة، وتبني بعض الأفكار والمواقف القبيحة.

وفي اليمن تعتبر المذهبية أقل حدة منها في كثير من البلدان الإسلامية، فـ«التيار السني» في غالبيته من أتباع المذهب الشافعي، كما أن «التيار الشيعي» من أتباع المذهب الزيدي، وقد عَرف الناس المذهبين بالتسامح الذي يكاد يبلغ حدَّ الاندماج، فرموز المذهبين يتفقون أكثر مما يختلفون، ولم يكن بينهم تصادم وتنافر في كثير من مسائل الخلاف، التي قرر الجميع أن الاختلاف فيها نوع من أنواع الاجتهاد الجائز نظراً لاختلاف النَّقل عن المشرِّع وتفاوت الناس في الفهم واختلاف أساليبهم في التطبيق، إلى جانب أنهم لم يكونوا يستحضرون التفاصيل الفكرية العقدية، والسياسية التاريخية للإثارة والتحريض، بل كان ثمة تفهّم من كل طرف لما يخالفه فيه الطرف الآخر، مما جعل مؤسساتهم التعليمية ودور عبادتهم مختلطة، وكان بعضهم يتتلمذ على بعض، ويهاجر لطلب العلم بين يدية، وكانوا يتبادلون الإجازات والروايات، مما جعل كل طرف يجل الآخر ويعتمد روايته ويحترم اختياراته الفقهية وإن لم يعمل بها.

واليوم ونتيجة لدخول اليمن مرحلة التجاذبات السياسية – كغيره من البلدان العربية والإسلامية- ظهرت المشكلة المذهبية في أشكال وقوالب مختلفة، وأخذت تتفاقم نتيجة الاستقطاب السياسي والتأثير الاقليمي والدولي، الذي وجَدَ في المشاعر المذهبية مادة قابلة للاشتعال، ووسيلة للدفع بالمجتمع نحو «الطائفية» التي يسهل من خلالها شق الصف وحشد الناس ضد بعضهم، ومن ثمة التحكم في الوضع العام للبلد من خلال لعبة ترجيح كفات الصراع، حسب مقتضيات السياسة الاقليمية والتوجهات الدولية.

عند ذلك أخذت التفاهمات التي مضى عليها السابقون تتساقط،

وساعد على ذلك كثيرٌ من المتنطعين من المنتمين إلى هذا المذهب أو ذاك، حين سارعوا إلى وضع العلامات الفاصلة بين أبناء المذاهب ذات الخلفية الاسلامية الواحدة، والتاريخ الوطني المشترك، مما أضر بمستقبل التقارب والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد. حتى صار بعضهم – وللأسف – يعتبر تعايش السابقين وتسامحهم ضربا من المجاملات والمداهنات على حساب الحق والدين!! وعملوا على إقناع فريق من أتباعهم بأن عداوة ومفاصلة المختلفين معهم إحدى ركائز الدين والانتصار للحق، وبذلك اغرقوا الناس في ممارسة الحزبية المذهبية لفرض فكر خاص، بحجة أن في ذلك حماية لجماعتهم من التأثر بالغير والأخذ عنه؛ لأن الاختلاط بالغير والأخذ عنه أحد أسباب الانحراف في نظرهم.

وفي ظل ذلك تسللت إلى المجتمع السني تيارات دينية يغلب عليه السطحية والحرفية وحدة الموقف تجاه الآخر، كما تسللت إلى المجتمع الزيدي تيارات يغلب عليها المبالغة في الولاء، والتأثر بالأساطير والخرافات، وأخذ كثير من اليمنيين المتفاهمين مذهبياً ينجذبون – تحت مؤثرات شتى – نحو هذا الطرف المتطرف أو ذلك، وشيئاً فشيئاً صارت المذاهب مزيجاً من الدين والسياسة، وتحولت إلى ما يشبه معسكرات يحشد كل منها لمواجهة الآخر، وأخذ الوسط المعتدل يذوب بالتدرج تحت تأثير حرارة الفرز والشحن والتحريض، وتوطيد مبدأ «من لم يكن معنا فهو ضدنا» حتى تحول الحياة في بعض المناطق إلى مأساة يُحاسَب الناس فيها على هوياتهم المذهبية، ونتج عن ذلك قتل وتشريد ومواجهات مسلحة مؤسفة.

وهذا مما أقع المذاهب المتسامحة في اليمن ضحية السياسة الحزبية، والتجاذبات الاقليمية، التي جنت عليها، حين حولتها من فكر رحب عابر للحدود، إلى سياسة محصورة لخدمة أنانيات ضيقة.. ولكن المسار سرعان ما تغير فصارت (المذهبية) هي من يتحكم في السياسة، وهذا ما يجعلنا نلاحظ أن أكثر الحركات السياسية ذات الطابع الديني يغلب عليها التمذهب أكثر من السياسة، وإن تظاهرت بخلاف ذلك، لأنها ترى أن مبرر وجودها هو السعي لتمكين «فكرها المذهبي الخاص»، وهو ما يجعلها غير مكترثة بوضع المجتمع، وأحواله المعيشية، ومستوى وعيه وصحته، بقدر اهتمامها بالاستحواذ على مراكز التأثير الفكري والتربوي لحشد الناس تحت لوائهم الذي يرون أن فيه – دون سواه – صلاح الأمة، أو انتصارا لله، أو نصرة للشريعة. وإن أبدت بعض تلك التيارات شيئاً من الاهتمام بشأن الناس فما هو إلا بقدر ما تريد أن تحقق من استقطاب المؤيدين والأنصار للحصول على أكبر قدر من المكاسب «السي مذهبية».

بل إننا نجد كثيراً منهم لا يهتمون بتوفر المشاعر الدينية، ومؤثرات الصلاح والفساد في السلوك العام لأفراد المجتمع، فلا مكانة عند تلك التيارات لأي شخص لا يتبنى المزيج المذهبي السياسي لجماعتهم، مهما كان صالحاً في سلوكه، نافعاَ لمجتمعه، ناجحا في عمله.. حتى أن ذلك البلاء قد تعدى حتى وصل إلى المؤسسات العسكرية والإبداعية والإنسانية والمهنية، فليس لاحد قيمة عند تلك التيارات ولا ينال شرف الثقة إلا بمقدار ولائه للمزيج المذهبي السياسي الخاص، وهذا ما جعل الفرز يطال كل شيء حتى الفن والرياضة والاقتصاد، وأصبح لكل فريق خبراءه، وأطباءه، وتجاره، واقتصاديه، بل وحتى رياضييه وفنانيه.

• وفي المعالجات اعتقد أنه لا يمكن الحد من بلاء المزيج السياسي المذهبي من خلال قواعد تفرضها الدولة، أو رقابة تنفذها مؤسساتها، أو مجرد اعلان اتفاقيات ومواثيق، وإن كان شيء منها قد يساعد إلى جانب منظومة إجراءات ينطلق بها الجميع برمته، لأن الدولة والمؤسسات ذاتها مصابة كغيرها بداء التمذهب السياسي، فهي من نسيج المجتمع المتأثر بكل ما يجري فيه من فرز واستقطاب وشحن وتحريض. فضلاً عن أن الدولة إذا دفعت نحو خيارات معينة بالإكراه فإن ذلك سيولد حالة من التمرد والشعور بالمظلومية التي تصنع مقاومة مقدسة في نظر كل من يشعر أنه في دائرة الاستهداف.

ولكننا إذا فتشنا في أعماق أسباب الصراع البشري فإننا سنجده يرجع إلى أحد أصلين هما: الخوف أو الطمع .

• أما «الخوف» فينشأ نتيجة تصرفات طرف توحي بأنه يسعى لإلغاء الآخر وطمسه، أو سحقه واضطهاده، وهذا ما يجعل الطرف المتخوف يبحث عمن يشاركه تلك المشاعر، فيشكل معه جبهة تنشأ – حتى دون كثير من التخطيط والترتيب – وتلقائياً يلتحق بها كل متخوف من الطرف الآخر وإن اختلفت أسباب مخاوفهم.. سياسية كانت أو مذهبية أو اجتماعية أو حتى تجارية أو تاريخية، حتى أننا نجد أحيانا ما يشبه التناقض حينما نجد الإسلامي مع الليبرالي يشكلان جبهة ضد طرف إسلامي أو ليبرالي، أو حتى جماعة شيعية وسنية تشكلان جبهة ضد طرف شيعي أو سني. وما ذلك إلا لأن مخاوف معينة حضرت وغاب سواها، وكلما أمَّن كل فريق الآخرين من نفسه التحموا معه، وانتقلت المخاوف إلى الأبعد فالأبعد.

ولعل من تطبيقات ذلك في واقعنا وعلى المستوى المحلي ما نشهد من تكتلات تجمع خصماء الأمس، وتفرق بين حلفائه. وتلك التحالفات في السياسة أمر طبيعي، وأثرها في ضرب المجتمع ببعضه محدود رغم سوئه، ولكنها تكون خطيرة إذا نُفخت فيها روح العصبية المذهبية أو القبلية أو المناطقية أو السلالية.

• وأما «الطمع» فهو ما يعبِّر عنه كل بالعمل على بسط سيطرته واستحكام نفوذه على أكبر قدر ممكن من خيرات الأرض، ومقومات التميز، وعوامل البقاء. وعلى تلك الأشاء نشبت الصراعات بين الناس على مر العصور، ولا يزال المختصمون عليها يتفننون في أساليب الصراع، ويطورون آلات الفتك والدمار حتى صارت كفيلة بالقضاء على الجميع وما يتصارعون عليه من خيرات الارض ومُلكها.

ومن اللافت أن كثيرا من معالجة آثار الطمع كامنة فيه، ومنها: أن تكون دائرة السيطرة والنفوذ تلبي مطامع الجمهور الأعظم من الناس، مما يجعلهم يلتفون حولها، وبالتالي تختفي ظاهرة الصراع، لأن مطامع الجميع تتحقق وإن بنسب متفاوتة. ولهذا السبب لا نرى كثيراً من الصراعات ولا حضوراً للعصبيات في المجتمعات التي تتاح فيها الفرص للجميع وتهيء لهم أسباب العيش وتتاح لهم حرية التعبير والتفكير، فإذا أتيح لهم ذلك زالت أسباب التمترس والتحشيد والنفخ في العصبيات، وفضَّل الجميع العيش مع بعضهم بسلام، وانصرفوا إلى ترتيب علاقاتهم، وفصلوا بين مشاعرهم الدينية، وقناعاتهم الفكرية وبين طريقة التعامل مع الآخر.

• ومن الاجراءات التي ينبغي أن تتخذ للتخفيف غلواء المزيج المذهبي السياسي المتعصب، وإبعاد المجتمع عن الفتن الطائفية:

إبراز دور الوسط الذي ليست لديه عقدة ضد الآخر المختلف معه، ولا يعتقد أن وجود غيره خطر عليه، ولا يفكر في إخراجه لا من الحياة الفكرية، ولا السياسية ولا الطبيعية، ثم تتضافر الجهود لتوسيع دائرة ذلك الوسط، وتتاح له فرصة تقديم نفسه حتى يبدوا كتيار واسع التأييد. عند ذلك سيسعى المتنافرون من أصحاب المزيج المذهبي السياسي، لاستقطاب ذلك الوسط، وسيدركون أن قبولهم لن يكون إلا بمقدار ما يكون لديهم من مرونة واستعداد لقبول الآخر كما هو، لا كما يريدون، وهذا مما يدفع بهم نحون مراجعة مواقفهم ومناهجهم، وشيئا فشيئا يتعودون على قبول غيرهم ويدركون أن لهم حقا في الوجود، وحقا في التفكير، وحقا في العيش الكريم، وإن لم يكونوا على شاكلتهم في شيء.

ذلك إلى جانب تتبنى المؤسسات الرسمية ثقافة التسامح والتعايش، وتقوم بضخها من خلال قنوات التأثير مهما كانت انتماءات القائمين عليها، ويتولى فريق من النخب استحضار قيم التسامح من الدين الحنيف وتقديمها كنظريات للحياة الكريمة، وتمارسها بالفعل في سلوكها اليومي، حتى يثبت للمجتمع بكل أطيافه أنه لا يمكن لأحد أن يلغي أحداً، وأن التعايش والتسامح هو الخيار الأمثل للشعوب والمجتمعات، مهما اختلفت قناعاتها الفكرية وخياراتها السياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى